معلّــم ناجــح جــداً
لقد اخترت لك هذه النوادر الظريفة حول المعلمين وحيلهم تجاه تلامذتهم بل وحدة ذكائهم. لست على يقين أن تكون مهنة التعليم مهنة سامية بعد قراءة السطور التالية.
قال الجاحظ: مررت بمعلم صبيان وعنده عصا طويلة، وعصا قصيرة، وصولجان، وكرة، وطبل، وبوق، فقلت: ما هذا؟ فقال عندي صغار أوباش فأقول لأحدهم اقرأ لوحك فيصفر لي، فأضربه بالعصا القصيرة فيتأخر، فأضربه بالعصا الطويلة، فيفر من بين يدي فأضع الكرة في الصولجان وأضربه فأشجه فتقوم إلي الصغار كلهم بالألواح فأجعل الطبل في عنقي، والبوق في فمي، وأضرب الطبل وأنفخ في البوق، فيسمع أهل الدرب ذلك فيسارعون إلي ويخلصوني منهم.
وحكى الجاحظ أيضا، قال: مررت على خربة فإذا بها معلم وهو ينبح نبيح الكلاب فوقفت أنظر إليه وإذا بصبي قد خرج من دار فقبض عليه المعلم وجعل يلطمه ويسبه فقلت عرفني خبره. فقال هذا صبي لئيم يكره التعليم ويهرب ويدخل الدار، ولا يخرج، وله كلب يلعب به، فإذا سمع صوتي ظن أنه صوت الكلب فيخرج فأمسكه.
أما ألطف ما قرأت عن نوادر المعلمين، فهو ما رواه الجاحظ عن تأليفه لكتاب حول نوادر المعلمين "وماهم عليه من التغفل" وتردده في تمزيقه. فهو يروي :
دخلت يوما مدينة فوجدت فيها معلما في هيئة حسنة فسلمت عليه فرد علي أحسن رد، ورحب بي فجلست عنده وباحثته في القرآن فإذا هو ماهر فيه، ثم فاتحته في الفقه والنحو وعلم المنقول وأشعار العرب فإذا هو كامل الآداب. فقلت: هذا والله مما يقوي عزمي على تقطيع الكتاب. قال فكنت أختلف إليه وأزوره فجئت يوما لزيارته فإذا بالكتّّاب مغلق ولم أجده فسألت عنه فقيل مات له ميت فحزن عليه وجلس في بيته للعزاء. فذهبت إلي بيته وطرقت الباب فخرجت إلي جارية، وقالت ما تريد: قلت سيدك فدخلت وخرجت وقالت باسم الله فدخلت إليه وإذا به جالس فقلت عظم الله أجرك لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة كل نفس ذائقة الموت فعليك بالصبر ثم قلت له هذا الذي توفي ولدك قال لا، قلت فوالدك قال لا، قلت فأخوك قال لا، قلت فزوجتك قال لا فقلت: وما هو منك قال حبيبتي فقلت في نفسي هذه أول المناحس فقلت سبحان الله النساء كثير وستجد غيرها فقال أتظن أني رأيتها قلت وهذه منحسة ثانية، ثم قلت وكيف عشقت من لم تر؟ فقال أعلم أني كنت جالسا في هذا المكان وأنا أنظر من الطاق إذ رأيت رجلا عليه برد وهو يقول:
يا أم عمــرو جزاك الله مكــرمة ردي عــلي فــؤادي أينــما كــان
لا تــأخذين فــؤادي تلعبــين بــه فكيف يلعب بــالإنسان انســانـــا
فقلت في نفسي لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر فعشقتها فلما كان منذ يومين مر ذلك الرجل بعينه وهو يقول:
لقــد ذهــب الحمــار بــأم عمــرو فــلا رجعت ولا رجــع الحمــار
فعلمت أنها ماتت فحزنت، وأغلقت المكتب، وجلست في الدار. فقلت: يا هذا إني كنت ألفت كتابا في نوادركم معشر المعلمين وكنت حين صاحبتك عزمت على تقطيعه والآن قد قويت عزمي على إبقائه وأول ما أبدأ بك إن شاء الله تعالى.
المستطرف في كل فن مستظرف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق